الحفاظ على تراث سورية يصون مستقبلها

تمرّ سورية بمرحلة مؤلمة، صادمة ومزعزعة أدت الى إحداث شرخ في النسيج الوطني والمذهبي والاجتماعي فتفسخ كل ما يجعل من سورية بلداً واحداً بشعب واحد يجمعه تاريخ مشترك وتجارب وتطلعات مشتركة. هذا الشرخ وصل اليوم الى درجة ما بعد نقطة الانهيار. ويعم الدمار اليوم في معظم أرجاء البلاد بما فيها تراث سورية الثقافي والحضاري الذي أصبح هو أيضاً ضحية هذه الحرب منذ اندلاعها.

التغير في طبيعة الصراع في سورية من حراك مدني وتظاهرات سلمية كجزء من ظاهرة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة في العام ٢٠١١ الى مواجهة مسلحة بين النظام والمعارضة في ٢٠١٢، أدى الى انهيار سلطة الدولة ومؤسّساتها بما فيها المعنية بالحفاظ على التراث الثقافي في معظم أنحاء البلاد بداية بالأرياف وامتداداً الى المدن كلما اتسعت رقعة القتال. وهذا بدوره سهّل انتشار الحفر العشوائي والإتجار بالآثار المسروقة في هذه المناطق.

 

وآثار أعمال الحفر والسرقة موثّقة جيداً من خلال الصور الفضائية المأخوذة قبل اندلاع الحرب وبعده في أهم المواقع الأثرية السورية مثل أفاميا ودورا أوروبوس ومدينة تدمر المدرجة على لائحة التراث العالمي لمنظمة «يونيسكو». كذلك القتال والقصف العشوائي في تلك المناطق تسبّبا في أضرار جسيمة للمواقع الأثرية والمتاحف وغيرها من المباني التراثية. وفي مدينة معرة النعمان (محافظة إدلب) أصيب المتحف نتيجة ضربات جوية في ١٥\٦\٢٠١٥ و ٩\٥\٢٠١٦ ما ألحق أضراراً بالبناء التاريخي. أما مدينة حلب القديمة فمدمّرة بنسبة كبيرة، وقلعة الحصن تعرضت لأضرار جسيمة نتيجة القتال. وكلاهما أيضاً مدرج على لائحة التراث العالمي.

ثم هناك تنظيم «داعش» الذي يمارس النهب والإتجار بالآثار والتدمير المتعمّد والممنهج للتراث الثقافي. مع ظهور «داعش» في ٢٠١٣ وامتداد سيطرته في سورية والعراق، رأينا تصعيداً لعمليات السرقة وبيع الآثار فأصبحت هذه التجارة مصدر تمويل للتنظيم الذي يسيطر على مفاصل هذه التجارة، من خلال ما يعرف بـ «ديوان الركاز» بداية بتنظيم أعمال الحفر من خلال إصدار الرخص وإدخال الآليات للحفر وانتهاءً ببيع القطع في مزادات.

في ٢٠١٥ شهدنا تحولاً جديداً في استغلال «داعش» للتراث الثقافي، إذ بدأ التنظيم تدمير المواقع والمتاحف بطريقة وحشية ومعلنة. بدأت هذه الأعمال ببث فيديو مصور لتكسير محتويات متحف الموصل في شباط ٢٠١٥ ووصلت الى ذروتها بتفجير «داعش» لمعبد بيل في مدينة تدمر الأثرية في آب (أغسطس) ٢٠١٥. وعلينا التنويه بأن تدمير «داعش» الوحشي المواقع والمباني الأثرية والمتاحف هدفه تحقيق مكاسب إعلامية وليس دينية كما يفترض. فمن خلال هذه الأعمال الوحشية استطاع «داعش» أن يصدم العالم ويوحي بقدرته على ارتكاب أعمال وحشية بحصانة في ظل عجز المجتمع المحلي والدولي عن منعه. أمام كل هذا الدمار والانتهاكات بحق التراث الثقافي في سورية وغياب مؤسسات الدولة المعنية بهذا العمل مثل المديرية العامة للآثار والمتاحف في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ظهرت بدائل من ضمن المجتمع المحلي لتواجه هذا الدمار وتدافع عن هذا الإرث الحضاري. فقد تشكلت مجموعات من الناشطين والآثاريين وأمناء المتاحف الذين يعملون مراقبين للمواقع الأثرية وفي توثيق الانتهاكات وأعمال السرقة والأضرار الناجمة عن القصف العشوائي، إضافة الى حماية المتاحف ومحتوياتها. وتدعم منظمات غير حكومية مثل منظمة «اليوم التالي» (The day after) نشاطات هذه المجموعات من خلال توفير الغطاء المؤسساتي لها وتوفير الدعم المالي والخبرات الاستشارية وإجراء دورات تدريبية. ومن أبرز النشاطات المشتركة بين منظمة «اليوم التالي» وهذه المجموعات المحلية في ٢٠١٥ و٢٠١٦ كانت حماية متحفي معرّة النعمان وأفاميا اللذين يحتويان على مجموعة مهمة من لوحات الفسيفساء. ووفّروا الحماية من خلال تغطية اللوحات بالقماش، ثم وضع أكياس رمل. ودليل نجاح هذه العملية أنه عندما أصيب متحف المعرة بضربات جوية عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦ سلمت اللوحات بفضل حمايتها بأكياس الرمل.

في النهاية، من الواضح دور أهمية التراث الثقافي في تحديد الهوية الوطنية لدى الشعب السوري، أي ما يحدد سوريتنا. سورية لديها هوية وطنية قوية ومرِنة مؤسَّسة على مفهوم المواطنة المشتركة ومبنية حول تاريخ مشترك ومدعوم بحضارة عريقة. ويوم تنتهي هذه الحرب، على الشعب السوري أن يبحث عن السبل التي ستسمح له بإعادة التواصل مع الرموز التي كانت توحّده عبر الخطوط السياسية والعرقية والطائفية. وهنا تاريخ سورية الثقافي وتراثها الغني قد يلعبان دوراً محورياً بوضع الجسور اللازمة لتحقيق هذا الهدف. إذاً فالحفاظ على تاريخ سورية وتراثها الثقافي هو حماية لمستقبلها أيضاً.

 

 

*  عمرو العظم: أستاذ في الأنتروبولوجيا وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة شاوني في ولاية أوهايو الأميركية.